الفـكر الإســــــــلامي
الأعياد في الإسلام أصيلة، لاصلة لها بعظيم من العظماء
بقلم : الأستاذ
صفاء الدين محمد أحمد
تتنوع أعياد الأمم والشعوب من عهد إلى عهد، وتتغير أسماؤها،
وتعدل مواعيدها من مناسبة إلى مناسبة، وتكثر وتقل، ويزاد فيها، وينقص منها مسايرةً
للأحداث، أو مجاراةً للأهواء، وتتأثَّر مراسيمها وتقاليدها بتطور الزمن وتغير
الأفكار.. أما أعيادنا الإسلامية الأصيلة فهي ثابتة منذ كانت لاتتغير أسماؤها، ولا
تعدل مواقيتها، لا تتطور شعائرها، ولا يزاد فيها أو ينقص منها؛ لأنها مرتبطة
بعبادة من العبادات الإلهية، أصلية أصالتها ثابتة ثباتها، مشروعة شرعيتها، وهذا هو
الفرق بين ما صنع الله، وبين ما صنع البشر.
تقوم دولة من الدول في مكان ما من الأرض،
فتكون لها أعيادها، وتسقط هذه الدولة وتقوم مقامها أُخرى، فتلغي من الأعياد ما
تشاء وتثبت ما تشاء، وتزيد ما تشاء؛ ويسود نظام من النظم جماعة من الجماعات فتكون
له أعياده ويسقط هذا النظام، ويحل محله نظام آخر يخالفه أو يناقضه، فيلغي أعياد
سابقه، ويقيم أعيادًا جديدةً، يتولى عظيم من العظماء، فتكون ولايته عيدًا، وتنتهي
هذه الولاية بموته أو بتنحيته، ويتولى سواه فيتخذ لنفسه عيدًا آخر يفرضه على
المحكومين.
وتختلف مراسم الاحتفال بالأعياد من شعب
لآخر ومن عصر لعصر، فآنا مواكب للخيل المطهمة، وحيناً عرض للدبابات ومظاهر القوة،
وحينا آخر إطلاق المدافع الفارغة والسهام النارية.
أما أعيادنا الإسلامية
الأصيلة، فلا صلة لها بعظيم من العظماء أياً كان مبلغه من العظمة لا بولادته، ولا
بولايته ولا بموته، ولا ارتباط بقيام نظام من النظم البشرية المتغيرة المتضاربة،
ولا بتخليد موقعة من الوقائع الحاسمة ولا تسجيل فتح من الفتوحات، وشعائر أعيادنا
هي هي لم يطرأ عليها تغيير ولا تحوير.. نشيد علوي سماوي: الله أكبر. الله أكبر. لا
إله إلا الله. والله أكبر الله أكبر. ولله الحمد.. وصلاة جامعة محددة المعالم
ثابتة الأقوال والأفعال بعد ارتفاع الشمس، وخطبتان مناسبتان بعدهما.
أعيادنا الإسلامية الأصيلة: عيد الفطر
وعيد الأضحى، لم يزد عليهما، ولم ينقص منهما، ولم تتغير معالمهما وشعائرهما منذ
ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرين عاماً حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة،
فوجد للأنصار يومين يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان؟ «قالوا: يومان كُنّا
نلعب فيهما في الجاهلية فقال: «قد أبدلكما الله بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم
الفطر». (رواه أبوداود عن أنس رضي الله عنه).
عيدان اثنان. لا يزيدان، ولا
ينقصان للأمة الإسلامية كُلها. أيًا كان مقامها في أرض الله، وأيًا كان وجودها في
أيام الله.. عيد الفطر، وهو أول يوم بعد رمضان يفرح فيه المسلم الصائم فرحتين:
فرحة القيام بواجب الطاعة لله، وفرحة الفوز بجائزة الله له على هذه الطاعة وهي
جائزة فوق كل تثمين وتقدير يُحدّثنا عنها «سعد بن أوس الأنصاري عن أبيه» قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب
الطرق، فنادوا: اغدوا معشر المسلمين إلى رب كريم، يمن بالخير، ثم يثيب عليه
الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم،
فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين
إلى رحالكم فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة (رواه
الطبراني في الكبير).
أما العيد الثاني فهو عيد الأضحى في اليوم
العاشر من ذي الحجة، وهو اليوم الذي سماه الله يوم الحج الأكبر، وفيه تفرح جموع
الحجيج إلى بيت الله بأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، ويفرح فيه المسلمون
قاطبةً بتمام نعمة الله عليهم وإكمال دينهم: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ (سورة المائدة:3)
وأعيادنا مع أنها تتسم بجمال الروحانية
وجلال التقوى، وتبدأ شعائرها بالخروج إلى المُصلى والوقوف صفوفًا بين يدي الله
تبارك وتعالى في مظاهرة كبرى تشهدها الصبيان والنساء، قالت أم عطية: «أمرنا أن
نخرج العواتق (البنات) والحيض في العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل
الحيض المصلى مع هذه الروحانية العالية التي تتميز بها أعيادنا تتساوق مع الفطرة
الإنسانية الزاكية، وتستجيب للطبيعة البشرة، ولكن في اتزان واعتدال، فهي بجانب
الشفافية والنورانية والصفاء الذي يسود المسلمين في كل لحظة من لحظاتها –
تضفي على القلوب الأنس وعلى النفوس البهجة وعلى الأجسام الراحة؛ ولهذا كان من
شعائر الإسلام فيها التطهر والتزين والتطيب، ولبس أجمل الثياب، قال الحسن السبط:
«أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجود مانجد».
* إباحة اللهو
البريء
واللعب المباح، واللهو البريء والغناء
الحسن العفيف مما رخص فيه في يوم العيد رياضةً للبدن واستجابةً لتطلعات القلوب
والنفوس.. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيما رواه الإمام أحمد والشيخان:
«إن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، فأطلعت من
فوق عاتقه، فطأطأ لي منكبيه، فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقة حتى شبعت، ثم انصرفت»
ورووا عنها أيضًا قالت: «دخل علينا أبو بكر في يوم عيد وعندنا جاريتان يذكران يوم
بعاث (وهو يوم مشهور من أيام العرب)، فقال أبوبكر: عباد الله أمزمور الشيطان،
قالها ثلاثًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا،
وإن اليوم عيدنا» وفي رواية عروة أنه قال: «لتعلم يهود المدينة أن في ديننا فسحة.
إني بعثت بحنيفية سمحة».
أعيادنا الإسلامية أعياد
عامة. لا تصطبغ بصبغة فردية ولا محلية ولا إقليمية ولا جنسية، أعياد للصغير
والكبير، للفرد والأسرة، للقرية والمدينة، للأمة الإسلامية قاطبةً، يشترك فيها
أعداد لا حصر لها من المسلمين في الشرق والغرب من كل لون ولغة، تشمل الفرحة فيها
كل قلب، وتعم النعمة فيها كل بيت، وترتسم الإبتسامة فيها على كل شفة، فيها تتقارب
القلوب على الود، وتجتمع النفوس على الألفة وتطهر الصدور من الضغن والحقد، وتتصافح
الأيدي بعد طول انقباض، ويتناسى الناس ما بينهم من إحن وثارات، وتبرز العواطف
الإنسانية النبيلة، الناس كلهم رضا والناس كلهم شكر يتلاقون فيقول بعضهم لبعض ما
كان يقوله أصحاب رسول الله: «تقبل الله منا ومنك».
أعياد مسرات وخيرات
أعيادنا أعياد مسرات وخيرات ينمو فيها وعي
الأفراد بحق الجماعة عليهم، وتقوى صلة الفرد بالمحيط الذي يعيش فيه، ويتعاون مع
الناس على الخير والإحسان إليهم، وكلما نما الوعي بحق الجماعة والإحساس بمشاكل
المجتمع عظم الترابط بين أفراد المجتمع حتى يكونوا كالبنيان المرصوص أو كالجسد
الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء، وفي ظلال هذا الوعي والإحساس
تذوب الفوارق الكبيرة التي يشقى بها الناس، وتخف حدة المآسي والأرزاء التي تمتلئ
بها دنياهم، فتنبسط الأيدي بالبذل والعطاء ويمسح الغوث والنجدة دموع المنكوبين
والفقراء، ويشعر الجار بحاجة جاره كما يشعر بحاجته، ويتذوق طعم السعادة في إدخال
السرور على أولاد صديقه كما يتذوقها في مسرة أبنائه. ولقد عاش مجتمعنا الإسلامي في
ظل هذه المعاني الإنسانية الرفيعة فترةً من الزمان كان فيها أسعد المجتمعات،
وأحناها على بائس، وأعطفها على فقير، وأسرعها لنصرة مظلوم وإغاثة مضيع.
حدث (الواقدي) وهو من كبار علماء القرن
الثاني الهجري فقال: «كان لي صديقان أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة فنالتني ضائقة
شديدة وحضر العيد فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البأس والشدة، وأما
صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي رحمة لهم لما عليهم من الثياب الرثة، فانظر كيف تعمل
لكسوتهم، قال الواقدي: فكتبت إلى صديقي الهاشمي اسأله التوسعة علي، فوجه إلي كيسًا
مختوماً فيه ألف درهم، فما استقر في يدي حتى كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما
شكوت إلى صديقي الهاشمي، فوجهت إليه الكيس بختمه، ثم أخبرت امرأتي بما فعلته،
فاستحسنته، ولم تعنفني عليه، فبينما أنا كذلك إذ وافاني صديقي الهاشمي، ومعه الكيس
كهيئته، فقال لي: إنك حين طلبت مني المال لم أكن أملك إلا ما بعثت به إليك ثم
أرسلت إلى صديقي الثالث أسأله المواساة، فوجه إلي الكيس الذي بعثت به إليه، قال
الواقدي: فتقاسمنا الألف فيما بيننا، كل واحد ثلاثمائة، ثم أخرجنا للمرأة مائة
درهم، ونما الخبر إلى (المأمون) فدعاني وسألني، فشرحت له الخبر فأمر لنا بسبعة
آلاف دينار لكل واحد منا ألفا دينار وللمرأة ألف دينار».
هذه بعض المعاني التي تعبر عنها أعيادنا
الإسلامية، وهذا نموذج لسلوك المسلمين فيها، وفهمهم لحقوق الإخوة الإسلامية
عليها..
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان وشوال
1432هـ = أغسطس- سبتمبر 2011م ، العدد : 9-10 ، السنة : 35